السبت، 28 فبراير 2009

التنوع وأزمة النخبة







من أبرز خصائص المجتمعات المتقدمة و المتمدنة أن لها قابلية كبيرة للتعايش مع التنوع الذي يلفها في كل جوانبها، بل إنها تبحث عن مواطنه لكي تعززه ، فهي تعتبره عامل إثراء و تقدم للمجتمع، حيث أن النهضة و التقدم لا يتأتيان في ظل التطابق التام في جميع جوانب المجتمع.



من المفترض أن يكون هذا الكلام مسَلّم به من قبل المجتمع كله ، فإن لم يكن كذلك فعلى الأقل يكون وضحا عند العناصر الحية و القوى الفاعلة من مثقفين و كتاب و مفكرين و علماء ، حيث أنه في الغالب يكون المجتمع صدى لما يحمله هؤلاء من و عي و فكر ..



مشكلتنا مع قبول التنوع تكمن في أن تلك القوى الفاعلة تكون أحيانا غير مؤمنة به ، و إن آمنت به فهي غير مستعدة للدعوة إليه ، و إن دعت إليه فإنها غير قادرة على العمل به ، و إن عملت به فإنها تسيء استخدامه وتشوهه عبر التطبيقات الخاطئة ، فتؤمن بالتنوع – مثلا - إذا كان في صالحها ، و بذلك تتحول تلك القوى من موقع المرشد للمجتمع و القائد له إلى موقع التابع و المتأثر !!



وسبب ذلك أن هناك قيم سائدة تمجد التطابق الشكلي بين أفراد المجتمع معتقدة أن هذا التطابق يعني التلاحم و الوحدة ، فيكون الحرص كل الحرص على أن لا تُمس تلك الوحدة المزيفة بأي خدش و بأي خلاف حتى لا يتعرض المجتمع للتآكل الداخلي ، ويغيب عن الأذهان أن ذلك يكرس الأُحادية المقيتة التي تجعل المجتمع متخوفا من كل جديد و إن كان فيه الخير ، و أن الخلاف الذي يؤدي إلى التنوع في إطار الوحدة هو مصدر إثراء ، و هو ظاهرة صحية تمارسها المجتمعات المتقدمة فتزداد تقدما ، أما الخلاف الذي يؤدي إلى تفريق الناس وتشطير المجتمع فإنه سمة غالبة على المجتمعات المتخلفة ، و التي لا تزيدها تلك الخلافات إلا تراجعا و تخلفا .



إن ذلك يتطلب منا إعادة النظر في مفهوم الوحدة و التنوع و في صورهما و في طرائق العمل بهما بتوازن و اعتدال
فكم من العلماء و أهل الرأي و النظر قضوا نحبهم وفي جعبتهم بعض الآراء والأفكار التي قد تكون فيها مصلحة عامة أو خروج من مأزق لكنها تصطدم مع النسق العام و الفكر الجمعي و التركيبة التقليدية للذهن والمجتمع ، فيخشى هؤلاء العلماء أن يبوحوا بها خوفا من معارضة الدهماء و التيار العام ، و بهذا تكون الذهنية الأحادية سببا في حرمان المجتمع من الكثير من الآراء الإصلاحية و التقدمية .


و المصيبة العظمى أن يكون المثقفون و أهل العلم و الرأي هم الذين يحمون تلك الذهنية و يساعدون في تعزيزها و الدفاع عنها .. علموا بذلك أو جهلوه.



أظن أن العالم لن يشعر بالندم و الحسرة على مجاراته و محاباته للنسق العام إلا عندما تكون لديه قناعة أو وجهة نظر مخالفة لذلك النسق فيجد نفسه عاجزا عن البوح بها حتى لا يثور الجمهور بوجهه و يرميه بالمروق عن قيم المجتمع و عوائده .



و ما أجمل تلك الكلمات التي نطق بها الشيخ عبد الحميد بن باديس حيث يقول : " على أهل الحق أن يكون الحق راسخا في قلوبهم عقائدا ، و جاريا على ألسنتهم كلمات ، و ظاهرا على جوارحهم أعمالا ، يؤيدون الحق حيثما كان ومما كان ، و يخذلون الباطل حيثما كان و مما كان "

أقول الحق لا أخشى و إني *** لأبصر دونه عنقي تدق
و لست بجازع ما دام قلبي *** يردد إن وعد الله حق
ومن الله التوفيق

الثلاثاء، 17 فبراير 2009

بداية + الجهالة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على سيدنا محمد .. سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين ..

وبعد ,,,

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في هذه المساحة سوف أتواصل معكم عبر بعض الكتابات المتواضعة التي أضعها بين أيديكم ، للتقييم والتعليق والإثراء ..

وأنا على ثقة تامة بأني سأجني من الفائدة الشيء الكبير وذلك بتفاعلكم وإضافاتكم ..

والآن أترككم مع أول مقال .

++++++++++++++++++++++++++++++++++


( الجهالة )

يَعتبر علماء الحديث أن توافر عنصر الجهالة في حال أحد رواة الحديث أو عينه سببا في الطعن في ذلك الراوي و رد روايته .

و كذلك الفقهاء يعتبرون الجهالة في أي عقد أو معاملة سببا في فساد ذلك العقد و رد تلك المعاملة .
في مقابل ذلك نرى أن العلاقة السائدة بين مختلف الفرقاء في الساحة الفكرية و الثقافية و العلمية يغلب عليها – في كثير من الأحيان - الجهالة المتبادلة بين جميع الأطراف .

و لاشك أن الجهل بالمخالف و بمرجعيته و تفصيلات منطلقاته ، و التطورات التي تطرء عليه ، سبب في المزيد من التشاحن و العداء ، و إن مراعاة كل تلك الأمور و اعتبارها و وضعها نصب العين قد يضيّق دائرة الخلاف أو يوسع دائرة التعاذر ، فإن لم يكن فليس أقل من أن يجعل الخلاف منطلقا من علم و فهم ، و في ذلك خير .

و الوصية الإلهية واضحة في هذا المجال ، فالله تعالى يقول { .. فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة .. } .

و بما أن الإنسان عدو ما يجهل ، فإن الجهالة سبب في الكثير من العداوات التي لو دخلها عنصر العلم بالطرف الآخر لحصل بعض التفهم أو التغير في أسلوب الخلاف .

لو كنتَ تعلمُ ما أقول عذرتني *** أو كنتُ أجهلُ ما تقول عذلتكَ
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني *** وعلمتُ أنك جاهل فعذرتكَ

و أسوأ ما في الجهالة هو أن ينطلق الإنسان منها في الحكم على الآخرين و يبني على تلك الأحكام أحكاما أخرى ، ثم يتخذ من إغراقه في الجهالة مستندا يرجع إليه و حجة يحتج بتا ، و هكذا فهو ينتقل من جهالة إلى أخرى .
يقول أبو تمام :

أَبَا جَـعْــفَرٍ إنَّ الجَهـالَةَ أُمُّها *** وَلُودٌ وأُمُّ العِلْمِ جَدَّاءُ حائِلُ
أَرَى الحَشوَ والدَّهْمَاءَ أضحَوْا كأَنَّهمْ *** شُعُوبٌ تَلاقَتْ دُونَنَا وقَبَائِلُ
غَدَوْا وكأنَّ الجَهْلَ يَجْمَعُهُمْ بهِ *** أَبٌ وَذَوُو الآدَابِ فيهمْ نَوَاقِلُ


إن مظاهر تأصل الجهالة في النفوس و العقول كثيرة ، و منها :

1- أن يظن الإنسان أن ما توصل إليه – أو توصل إليه مذهبه و مدرسته – من علم و وعي هو شيء نهائي مكتمل لا يمكن الإضافة عليه ، فضلا عن تغييره و تبديله ، مع أن تراث العلماء في الإسلام زاخر بمقولاتهم و مواقفهم التي تدور حول ذم التكبر على العلم ، و اكتفاء الإنسان بما توصل إليه .

2- أن يكون الارتباط بالمدرسة أو الاتجاه الذي ينتمي إليه الإنسان قد أُسس على قاعدة عاطفية من الرغبات و الأحاسيس و المشاعر ، ثم يأتي العقل و العلم متأخرا ليضفي صبغته على تلك العواطف .
الحبُّ أوّلُ مايكون جَهالةً فإذا تَمكَّنَ صارَ شُغْلاً شاغلا

و ينشأ عن ذلك استبعاد أي احتمال للخطأ أو الوهم أو القصور قد يصيب المذهب أو الرأي ، و يكون المنتمي في هذه الحالة له قدرةٌ تعمل تلقائيا و بعبارات محفوظة على رد أو تأويل أو تبرير أي استدراك أو خطأ أو قصور يقع في المذهب أو المدرسة .

3- تكوين صورة عن المخالف عبر و سطاء لا يلتزمون الحياد الكامل ، و ذلك عن طريق :

أ – الاجتزاء المشوِّه للأفكار و النصوص
ب- تعميم الاستثنائي من الآراء و الأقوال
ج – الاحتجاج بلازم المذهب و الرأي ، و إن لم يلزم
د- عدم مراعاة التطورات و التعديلات التي تطرء على المدرسة و المذهب ، و اعتباره كتلة صلدة غير قابلة لإعادة التشكل و التحول .

إن انتشار التعصب و عقلية البعد الواحد و تقديس الأفراد و تقديمهم على المنهج و المبدأ ، و الكيل بمكيالين ، و التعميم ، و اضطراب ردود الأفعال ، و انعدام الدقة و الانصاف .. و غيرها من الأدواء الفكرية و المنهجية تعتبر افرزا طبيعيا للإغراق في الجهالة القائمة و المتبادلة في الساحة الثقافية ، بل في الحياة العامة ، و في مثل هذه الظروف يكون الجهد المبذول في إقناع الجاهل بجهله أشد من الجهد المبذول في تعليمه .


إِنَّ اللَبيبَ إِذا تَفَرَّقَ أَمرُهُ *** فَتَقَ الأُمورَ مُناظِراً وَمُشاوِرا
وَأَخو الجَهالَةِ يَستَبِدُّ بِرَأيِهِ *** فَتَراهُ يَعتَسِفُ الأُمورَ مُخاطِرا


.. و الله المستعان