الخميس، 11 يونيو 2015

خيبة كامب ديفيد









يبدو أن دول الخليج لم ترجع من قمة كامب ديفيد بضمانات لأمنها وعلاقاتها الاستراتيجية بشكل كافٍ، بقدر ما رجعت بإلتزامات من جانبها، تحدد الدور المطلوب منها في المرحلة المقبلة، وهذا من شأنه أن يعزز المخاوف الخليجية لا أن يبددها، وخصوصا أن البيان الختامي للقمة استعمل كلمة "إمكانية" عند حديثه عن استخدام القوة العسكرية للدفاع عن أمن دول مجلس التعاون!

من الواضح أن أميركا تسعى لرسم المطلوب خليجيا قبل توقيع الاتفاق النهائي مع إيران في يونيو القادم، وهذا الدور قد يصب في نهاية المطاف لصالح الجانب الإيراني، ويعزز دوره كقوة إقليمية تقود المنطقة، وكحليف استرتيجي محتمل للولايات المتحدة، وهذا قد يجعل لإيران أولوية على الخليج في العلاقة بالولايات المتحدة، فإذا كانت إسرئيل لها الأولوية في العلاقات الأميركية، تأتي بعدها الدول الأوربية، ثم دول الخليج، فبعد أن يتم توقيع الاتفاق الايراني الأميركي ربما تحل إيران محل دول الخليج في سلّم أولويات العلاقات الاميركية!

ذهبت دول الخليج إلى كامب ديفيد للحصول على ضمانات أميركية، لكنها عادت وقد قدمت ما يشبه التعهدات بمكافحة الإرهاب و "اعتراض سبيل المقاتلين الاجانب" و”التصدي للتطرف العنيف في كافة أشكاله” وكل ذلك تحصيل حاصل، فلم تكن دول الخليج بحاجة إلى الذهاب لكامب ديفيد من أجل تأكيد هذا الأمر، ولم يكن ذلك هدفها من حضور القمة، كما أنها قدمت ما يشبه التعهدات بأنها لن تكرر ما قامت به في عاصفة الحزم، أو في أي عمل عسكري خارج حدودها دون "التشاور مع الولايات المتحدة"

جاءت قمة كامب ديفيد لتقطع الطريق على دول الخليج في أن يكون لها دور حازم في مناطق النزاع في الإقليم، فعندما تحدث البيان الختامي عن (سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا) أكد على  "أنه ليس هناك من حل عسكري للصراعات الأهلية المسلحة في المنطقة، والتي لا يمكن حلها إلا عبر السبل السياسية والسلمية، واحترام سيادة كافة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية" وهذا يعني أن تبقى هذه المناطق بؤرا مشتعلة أطول وقت ممكن، بعيدا عن نفوذ دول الخليج!

من اللافت للنظر عند حديث البيان عن اليمن أنه تجاهل ما قام -أو يقوم به- الحوثيون من هيمنة بالقوة، وقصف الأبرياء والآمنين، وانقلاب على الشرعية،  فلم يُدن ذلك، بل تحدث عن تنظيم القاعدة في اليمن وضرورة مواجهته! كما تعهدت دول الخليج بدعم الحكومة العراقية، والتي تقود المليشيات الطائفية!

يبدو أن رياح كامب ديفيد جاءت بما لاتشتهي سفن الخليج، لتحطم الصورة الخليجية التي بدأت تتشكل في أعقاب عاصفة الحزم، بأنها قادرة على صنع الحدث بحزم واستقلال، ولتُبَدد أي أحلام خليجية في القيام بأدوار من شأنها أن تعزز نفوذها.

الخميس، 7 مايو 2015

يا واش يا واش ياعلم !



لم أتصور أن الكتابة الصحفية قد أصبحت متعبة، وتتطلب قدرا من التيقظ يفوق ما كان عليه الوضع في السابق، ففي ظل التدفق المعلوماتي الهائل، والرغبة الجامحة لوسائل الإعلام في أن تتصدر شاشاتها عبارة "عاجل"، ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي التي صنعت ما يُعرف بـ "إعلام المواطن" الذي يستطيع كل إنسان فيه أن يصبح مصدرا للخبر، يحرره وينشره بواسطة جهازه الذكي، بعد أن كان ذلك حكرا على المؤسسات الإعلامية الكبرى والتقليدية،  في ظل هذه الثورة المعلوماتية تصبح مهمة كتابة المقالات أشبه بالسباق مع الزمن.. والذي تفشل في إدراكه أحيانا كثيرة!

ما إن تنتهي من كتابة مقال عن الحرب على الحوثيين، وعناصر القوة عندهم، حتى تفاجأ بقرارات مجلس الأمن بالتضييق على الحوثيين وحظر تصدير السلاح لهم، ليتحول المقال في لحظات إلى جزء من التاريخ!

تخطط لكتابة شيء عن الاتفاق الإيراني الأميركي،  وما هي المكاسب التي حققتها وستحققها إيران من وراء ذلك الاتفاق، فيسارع المرشد الأعلى للثورة إلى التحذير من إمكانية إنهيار هذا الاتفاق في أي لحظة، فتنهار معه فكرة المقال!
وفي الوقت الذي تستعد فيه لإرسال مقال عن تصريحات وزير التربية، والذي خلط فيها الحابل بالنابل، وتهجم على مؤسسة تعليمية كبرى (التطبيقي) بكلام فئوي وإقصائي، وتحدث بكلام ملتبس عن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تأتي الأخبار بأن الوزير يقوم بمحاولات "ترقيعية" لإصلاح ما يمكن إصلاحه مما قاله في لقائه مع جريدة القبس، فتضطر إلى عدم إرسال المقال!

  وتتوارد الخواطر لكتابة مقال عن مناورات علي عبدالله صالح، وخبثه السياسي، وانتقاله من تحالف إلى آخر، وإتقانه اللعب على تناقضات مجتمعه، فتأتي الأخبار سريعا بأنه يطلب خروجا آمنا له ولأسرته، واستعداده للتعاون مع التحالف الخليجي، ثم تأتي بعد ذلك الأخبار أسرع بأن الطلب قد تم رفضه من الرياض، فتذهب الخواطر أدراج الرياح.. ويذهب معها المقال!


وفي الوقت الذي تستعد فيه لإرسال مقال عن تصريحات وزير التربية، والذي خلط فيها الحابل بالنابل، وتهجم على مؤسسة تعليمية كبرى (التطبيقي) بكلام فئوي وإقصائي، وتحدث بكلام ملتبس عن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تأتي الأخبار بأن الوزير يقوم بمحاولات "ترقيعية" لإصلاح ما يمكن إصلاحه مما قاله في لقائه مع جريدة القبس، فتضطر إلى عدم إرسال المقال!

  وتتوارد الخواطر لكتابة مقال عن مناورات علي عبدالله صالح، وخبثه السياسي، وانتقاله من تحالف إلى آخر، وإتقانه اللعب على تناقضات مجتمعه، فتأتي الأخبار سريعا بأنه يطلب خروجا آمنا له ولأسرته، واستعداده للتعاون مع التحالف الخليجي، ثم تأتي بعد ذلك الأخبار أسرع بأن الطلب قد تم رفضه من الرياض، فتذهب الخواطر أدراج الرياح.. ويذهب معها المقال!

وهكذا في كل قضية تعزم على الكتابة فيها، فلا يكفي جمع المعلومات وتحليلها، بل يجب التأكد من أنها لم تصبح قديمة، فأحيانا يكون العمر الافتراضي للمعلومة لا يتجاوز الساعات القليلة، لتنتقل بعدها إلى سجلات التاريخ، ويتجاوزها الواقع سريعا، وهكذا يظل الكاتب يلاحق المعلومات، ويعيش في حالة ترقب دائم، مما يضطره إلى الكتابة في العموميات، وأحيانا يعيش حالة من الارتباك بسبب ذلك الطوفان المتدفق من المعلومات، الذي تعثر فيه على المعلومة ونقيضها في نفس الوقت، وهذا ما صعّب مهمة كاتب المقال الذي عليه أن يراقب المستجدات بحذر، وينتقي من بين المعلومات الأصح ليبني عليها تحليلا، يبطل مفعوله عند أول معلومة جديدة حول موضوعه.. فيارب لطفك!


الثلاثاء، 28 أبريل 2015

تدمير البيئة السياسي



يبدو لي أن هناك تدابير مُمنهجة لتدمير الحياة السياسية في الكويت، فبعد أن تَخلّت السلطة عن أسلوبها القديم في تعطيل العمل بالدستور، وتعليق الحياة البرلمانية بشكل مباشر وصارخ، أصبحت تلجأ إلى إفراغ الحياة السياسية من مضامينها الرئيسية، والمتمثلة في القيم الديمقراطية التي يقوم عليها الحكم الرشيد، من سيادة للقانون، وتحقيق مبدأ المواطنة، وتنظيم العمل السياسي بما يضمن تشكيل كُتل نيابية كبيرة تحقق أغلبية برلمانية، تتيح لها تشكيل حكومة تُمنح الثقة بناء على برنامج عمل تم طرحه في الانتخابات.


 تَمثل الأسلوب الجديد للسلطة في تفكيك الحياة السياسية من الداخل، وإفراغها من محتواها، فيزالممارسات الحكومية المختلفة، عبر الهروب من استحقاقات الرقابة الشعبية في الاستجوابات، فتارة تحيله للمحكمة الدستورية، وأخرى للجنة التشريعية، وثالثة برفع كتاب عدم تعاون، وغيرها من الحيل السياسية تحت ذرائع دستورية، تُمثل التفافا على مواد الدستور، بما يناقض مقاصده الرئيسية وتوجهاته العامة.


 وقد بلغ تدمير البيئة السياسية ذروته في مرسوم الصوت الواحد، حيث عزز كل الأمراض الإجتماعية التي يعاني منها الوطن، وأخرجها على السطح، فقد رسخ الفردية في التمثيل السياسي، وخفّض عدد الأصوات المطلوبة للنجاح، فصار المرشح بحاجة إلى أصوات أقل، يستطيع أن يحصل عليها من "فخذ القبيلة" والعائلة، وجزء من الطائفة، والمنطقة السكنية، لتخرج لنا كائنات انتخابية يُطلق عليها فيما بعد "ممثلوا الأمة"!

 المصيبة أنه بعد أن شهدنا الكوارث التي حلّت بالبلد من وراء الصوت الواحد، الذي قسّم المقسّم، وجزّأ المجزأ، وفتَّتَ المجتمع ودمّر الحياة السياسية، نشهد توجها نحو تعميم هذا النموذج السيء على بقية المؤسسات القائمة على الانتخاب، ليصبح -بكل ما يحمله من عيوب- فلسفة عامة في مؤسسات الدولة، فبعد أن صار الصوت الواحد واقعا مرا في النظام البرلماني، تم استنساخه للجمعيات التعاونية، ويجري الآن التحضير لاستنساخه في الأندية الرياضية والاتحادات الطلابية، ليتم القضاء على ما تبقى من أمل في استعادة الحياة السياسية لعافيتها، وتدمير آخر معاقل الأمل التي تمثل الشباب، والتي يفترض أن تخرّج للمجتمع العناصر الحية التي تتقدم به إلى الأمام..

 عندما تقوم السلطة بفرض هذا النموذج في مختلف مؤسسات الدولة فإن هذا مؤشر على شعورها بحالة من الضعف، على عكس ما يتوهمه البعض، فلأن السلطة تدرك بأنها ضعيفة؛ فهي تقوم بإضعاف الشعب عبر تفتيت مكوناته لتدمير حياته السياسية، حتى لا يُعطى الفرصة لفرض إرادته، وتحقيق سيادته.


 المؤسف في الأمر أنه كان من المفترض بعد خمسين عاما من الحياة الدستورية أن نتحدث عن تطوير لهذه التجربة، أو على الأقل الحفاظ عليها، لكن الحاصل أننا أصبحنا نتحدث عن كيفية إيقاف التدهور والتردي الذي أصبحت تعانيه، ولا ندري في أي قاع سيقف بنا!

الأحد، 19 أبريل 2015

الظهر الخليجي المكشوف.. إلى متى؟

ملاحظة: هذا المقال تم نشره في جريدة القبس الكويتية هنا

قيل في المثل: قبل صعود السلم، تأكد من الجدار الذي يستند عليه.

 تلك خلاصة الدرس الذي يجب على دول الخليج الاستفادة منه بعد عقود طويلة من تجاربها في بناء تحالفات مع أنظمة سياسة عربية، راهنت عليها لكنها خسرت الرهان، فانقلبت تلك الأنظمة عليها، وعضت الأيدي التي احتضنتها، ولم يعد في وسع دول الخليج إإلا أن تقول:

وكم علمتُهُ نَظْمَ القوافي *** فلما قال قافيةََ هجاني

 هذا ما حصل لنا مع نظام صدام حسين، وتكرر ذات الأمر مع المخلوع علي عبدالله صالح، الذي تخوض دول الخليج حاليا حربا عليه بعد أن ضمنت له خروجا آمنا من موجة الثورة اليمنية التي كادت أن تقضي عليه، وقد وفّرت له المملكة العربية السعودية العلاج اللازم بعد إصابته في محاولة الاغتيال الذي تعرض لها، إلى أن عاد إلى اليمن ليتحالف مع الحوثيين، المدعومين من الخصم التقليدي لدول الخليج، وهناك تجارب أخرى مرشحة للتكرار إذا استمر هذا النوع من الدعم لأنظمة مشابهة، فمتى ستتخلى دول الخليج عن هذه السياسة الخارجية في بناء تحالفات مع أنظمة لا تمتلك عوامل البقاء، ليبقى ظهر الخليج مكشوفا!

 تعددت مبررات الدول الخليجية في دعم هذه الأنظمة، لكن هذه مبررات ما كانت لتوجد لولا بعض نقاط الضعف التي تعاني منها الدول الخليجية، ولعل أبرز تلك النقاط طبيعة أنظمتها السياسية التي تفتقر للمشاركة الشعبية الحقيقية، بالإضافة إلى الملاحظات السلبية التي تبديها منظمات حقوق الإنسان العالمية بين الفينة والأخرى، وكانت هذه القضايا تمثل مصدر ازعاج لها، ومدخلا لابتزازها، كما حصل مؤخرا عندما اعتبر الرئيس الأميركي أوباما أن "الخطر الذي يتهدد الخليج مصدره سخط الشباب داخل بلادهم"، وبالمثل تقوم إيران باللعب على وتر الأقليات الطائفية في المنطقة، رافعة شعار حماية حقوق تلك الأقليات كما تدعي، ومن المتوقع أن نشهد المزيد من تلك المزايدات من الطرفين، وخصوصا بعد الاتفاق الإيراني الأميركي حول البرنامج النووي ورفع العقوبات الاقتصادية.


 لكي تغلق دول الخليج الباب نهائيا في وجه تلك المزايدات الخارجية، ولكي لاتضطر لبناء تحالفات مع أطراف تقلب ظهر الـمِجَن عند أقرب فرصة، فإنها مطالَبة بالقيام بخطوات تاريخية نحو إعادة ترسيم سياساتها الداخلية، باتجاه منح شعوبها مساحات واسعة من الحريات السياسية، ومعالجة ملفات حقوق الإنسان المتخمة، والأجواء حاليا مناسبة، وخصوصا أن عاصفة الحزم قد رسمت صورة جديدة لدول الخليج، توحي بأنها قادرة على قيادة سياستها الخارجية باستقلالية وحزم، فمن المناسب أن تكتمل هذه الصورة برسم سياسات داخلية تتناسب مع تلك الصورة الخارجية، وتعززها وتمنحها قدرا من الاستقلالية، ولا تجعلها مادة للتوافقات الإقليمية والدولية.

هشاشة أوضاعنا الداخلية


ملاحظة: هذا المقال تم نشره بجريدة القبس الكويتية
http://www.alqabas.com.kw/Articles.aspx?ArticleID=1039856&isauthor=1

"إن المصائب يَجْمعنَ المصابينا" شطر بيت لأحمد شوقي يعبر عما هو ثابت ومستقر بين الناس، فمن المعروف أنه  في ظل المصائب والظروف الاستثنائية تتوحد الجبهة الداخلية، ويتناسى الناس خلافاتهم، أو يؤجلونها بعض الوقت، إلى أن تستقر الأمور، لكن الأحداث الأخيرة التي عصفت بعالمنا  منذ بداية الربيع العربي وإلى يومنا هذا، والتي ألقت بظلالها علينا في الكويت من خلال محطتها الأخيرة في الحرب على الحوثيين، كشفت عن حالة من الهشاشة المجتمعية، والقابلية المفرطة للانقسام الحاد عند أي أزمة، فما أن يستجد أمر حتى ينقسم الناس إلى "فسطاطين" ويأخذ كل طرف موقعه، ويرسل كل فسطاط إلى الآخر رسائل الإقصاء والتخوين والتهم المعلبة وتسجيل النقاط على الخصوم، ويتم ذلك بشكل آلي دون حاجة إلى التفكير بمجريات الأحداث، أومحتوى الخطاب، وعواقبه على البلاد والعباد!

من خلال تسجيل هذه الملاحظة فإنني لا أنشد المثالية، ولا أفترض أن يكون الناس على رأي واحد، فهذا لن يحصل -ويجب أن لا يحصل- لكن الذي يستحق الملاحظة والتنبيه هو حجم الاحتقان المجتمعي الذي يصاحب عملية الاختلاف، والذي يؤدي إلى ما يشبه "الانشطار الطولي" للمجتمع، يقوم من خلاله كل طرف باستدعاء كل ما في جعبته من مفردات الإقصاء، والذي ينتهي غالبا بتحريض السلطات على الطرف الآخر، والتصفيق لها عند اتخاذ إجراءات ضده.

هذه الهشاشة في البنية الداخلية لم تصنعها الأحداث بقدر ما كشفتها ورفعت الغطاء الساتر عن وجهها الذي ظل كل طرف يُجمّله بمساحيق المجاملات الباردة، ويدّعي المثالية في نظرته للآخر، ولكن إن كان شطر بيت شوقي "إن المصائب يجمعنا المصابينا" لم يعد يصدق علينا، فإن "الشدائد تُظهر معادن الرجال" هو المثل الأصدق على مجتمعنا في هذه الحالة، فالشدائد التي مرت بالمنطقة، والتي كان لنا نصيب منها أظهرت أمراض المجتمع، ونقلتها من القاع لتجعلها في الواجهة، وطافية على السطح.

  وإذا كانت "المنح تأتي على ظهر المحن" فإن انكشاف هشاشة الوضع الداخلي هو المنحة التي ساقتها لنا الأحداث العاصفة بالمنطقة، فمهما كانت الأمراض مستوطنة في جسد المجتمع فلابد أن تظهر بشكل جليّ حتى يمكن علاجها، ولذلك من الواجب استثمار هذه الأحداث التي كشفتنا من أجل ترميم أوضاعنا الداخلية بصورة سليمة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن تشتد العواصف أكثر في المنطقة، والتي بلا شك ستنعكس على البلد - إن لم يكن جزءا منها- فإن جاءتنا ونحن على هذا الحال "الانشطاري" فستخطَفُنا الطير.. أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق.. لا قدر الله!

الخميس، 26 ديسمبر 2013

تركيا.. وبكائيات العلمانيين العرب (2)



للاطلاع على الجزء الأول: تركيا.. وبكائيات العلمانيين العرب: إضغط هنا


تأتي الاستقالات التي تقدم بها ثلاثة من الوزراء في حكومة أردوغان في سياق الأزمة السياسية التي تعصف بتركيا هذه الأيام، والتي فجّرها الصراع بين أردوغان وحلفائه السابقين من جماعة "فتح الله كولن" الدينية ذات الميول الصوفية، بعد أن أوقف أردوغان دعم المدارس الخاصة التابعة للجماعة..

أسفرت هذه الأزمة عن اتهامات بـ "فضائح فساد" طالت أقارب وزراء في حكومة أردوغان، وألقي القبض على بعضهم من قبل الأجهزة الأمنية التي تحظى جماعة "كولن" بنفوذ واسع فيها.

بطبيعة الحال فإن فضائح الفساد التي تطال المسؤولين تحصل في العديد من الحكومات في الأنظمة الديمقراطية المستقرة، والتي تحمل قدرا عاليا من الشفافية، وهذا لا يقلل من خطورة الفساد، أو يعد مبررا له، ولكن ما يبعث على الطمأنينة أن مثل هذه التهم عندما تكون في إطار أنظمة مستقرة وذات شفافية، وقضاء يحظى باحترام وثقة الجميع، وفإنه يتم معالجتها من خلال مسارين:

الأول: المسار القضائي حيث يتم التحقيق بنزاهة وشفافية، ثم يصدر الحكم القضائي الذي يطمئن له الجميع.

الثاني: المسار السياسي، ويتمثل في مدى اقتناع الرأي العام بتهم الفساد، وهل يستمر في منح الثقة عبر صناديق الاقتراع لمن وُجهت لهم تلك التهم؟

من خلال هذين المسارين يمكن التعامل مع القضايا التي تعصف بالساحة التركية، بعيدا عن تهويل العلمانيين العرب، الذين يتعاملون معها بنفسية المَوْتور [الموتور هو من قُتل له قريب ولم يستطع الأخذ بثأره] وأيضا بعيدا عن التهوين الذي يقوم به بعض المبالغين في الحماس للتجربة التركية، كما لا ينبغي استبعاد سياق تصفية الحسابات، والخصومات السياسية والفكرية التي تحكم وتحرك المشهد برمته.

ليست المصيبة الكبرى في مجرد وقوع الفساد من أي طرف سياسي، لكن المصيبة الأكبر هو في غض الطرف عن الفساد، والتستر عليه، وعدم إفساح المجال للمسارين القانون والسياسي لكي يأخذا حاصلهما في العمل، ولعل بوادر التعامل الجيد مع تهم الفساد تجلت في تصريح الرئيس عبدالله غل حيث قال: لن تجري التغطية على أي فساد في تركيا، وقيام وزراء بتقديم إستقالاتهم، بالإضافة إلى التعديل الوزاري الذي قام به رئيس الوزراء يوم أمس، والذي أكد بأنه لن يتسامح في قضايا الفساد، لأن غض الطرف عنها يعني هدم المبادئ التي من أجلها قام الحزب.

تقع ردود الأفعال تلك في خانة "التصرفات المسؤولة" من قِبل الحكومة التركية، وتعتبر تفاعلا جيدا مع الحدث، ويبقى الأمر الآن في عهدة  القضاء ليقول كلمته في المتهمين، وعند الرأي العام التركي ليقول كلمته في من يدير هذه الحكومة، وفي جميع الأحوال ستكون هذه الأزمة بكل تداعياتها رصيدا في يصب في صالح تجربة حزب الحرية والعدالة ذي الجذور الإسلامية!

نعود إلى لعلمانيين العرب الذين وجدوا في هذه الأزمة فرصة كي يستعرضوا مركبات النقص التي يعانون منها، وبالتالي فلن يلتفتوا إلى أي إجراءات تمت –أو ستتم- في التعامل مع هذه الأزمة، ولن يقفوا عند أي أبعاد أخرى للقضية، فالمسألة بالنسبة لهم هي: تهم تمثل صيدا سمينا، فيجب استغلالها بأقصى ما يمكن للتشهير بحكومة أردوغان، وتلويث تجربته، ولا يهم أي شيء آخر!


وعين الرضى عن كل عيب كليلةٌ *** كما أن عين السخط تبدي المساويا


الأربعاء، 25 ديسمبر 2013

تركيا.. وبكائيات العلمانيين العرب!



يتلقى العلمانيون العرب (قوميون، يسار، ليبراليون...) أي خبر سلبي عن تركيا بالتصفيق والتهليل ويطيرون به في الآفاق، كنوع من تعزية النفس، بعد فشل العديد من تجاربهم في الدول العربية والإسلامية، وأصبحوا يعانون من عزلة شعبية، حيث لم يستطيعوا الوصول إلى مراكز القرار إلا عن طريق دبابات العسكر، أو في ظل حكومات استبدادية أو عشائرية، نتيجة فشلهم في الحصول على الثقة الشعبية في العديد من اختبارات الصناديق، لذلك فإنهم يتعاملون مع أي إخفاق لحكومة أردوغان –ذات الجذور الإسلامية- بحفاوة عالية!


لا شك أن حكومة أردوغان – ذات الخلفية الإسلامية- استطاعت أن تنقل تركيا نقلات نوعية على مستوى العديد من الأصعدة داخليا وخارجيا، فقد عززت من الاقتصاد التركي، وقفزت بمستوى دخل المواطن قفزات كبيرة، كما استطاعت أن تجعل من تركيا رقما صعبا في المعادلة الدولية، ولاعبا رئيسيا في ساحة المجتمع الدولي، إضافة إلى ذلك عززت هويتها الإسلامية  -ولعل هذا أكثر ما أزعج العلمانيين- وتصالحت مع الثقافة العربية، بعد أن كان غاية  طموحها أن تكون في ذيل أوربا، كما أنها حجّمت دور العسكر في الحياة السياسية التركية، والذي كان حاميا للعلمانية المتوحشة التي ظلت تحكم تركيا لعقود، والذي يبدو أنه لم تثِر حفيظة العلمانيين العرب!


هذه الحقائق من الصعب تجاوزها او تهميشها، ولا شك أنها تصب في صالح حكومة أردوغان، ولا ينكرها إلا مكابر، كما يفعل العديد من العلمانيين العرب اليوم، عبر تباكيهم في أي أزمة تمر بتركيا، والسعي لشيطنة الحكومة التركية من خلال هذه الأزمات!

حكومة أردوغان ليست هي الجنة الموعودة، ولا يصح التعامل معها على أنها الخير المطلق، ولا يمكن إنكار إخفاقها في لديها العديد من الملفات، لكن من التضليل الواضح أن نجعل هذه الإخفاقات هي واجهة التجربة السياسية لحكومة أردوغان، وإنما الموضوعية والإنصاف تجعلنا نقيم التجربة من خلال أسئلة محددة، مثل:


- كيف كانت تركيا قبل حكم حزب العدالة والتنمية على الصعيد السياسي  الدخلي،والاقتصاد، والسياسة الخارجية؟


-   أين وصلت تركيا بعد حكم العدالة والتنمية في تلك الأصعدة ؟


-    ماهي أبرز التحديات التي كانت توجه الحزب عند تسلمه للسلطة؟


- هل استطاع التغلب على تلك التحديات؟


نستطيع من خلال الأسئلة الدقيقة أثناء التقييم أن نكون أقرب للموضوعية في الحكم على التجربة، كما أن مثل هذه الأسئلة تقطع الطريق على العلمانيين العرب الذين يصنعون من كل أزمة تركية "بكائيات" يسترون من خلالها فشلهم وخيبتهم!




وللحديث بقية