الأحد، 9 أغسطس 2009

المنكرات السياسية


إن الخيرية التي جعلها الله في هذه الأمة عندما قال { كنتم خير أمة أخرجت للناس } منوطة بتكملة الآية { تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر } و هذه أحد وظائف الأمة، التي من الواجب عليها القيام بها لتحقيق هذه الخيرية، فلن تتحقق الخيرية مالم يكن للأمة دور مشهود في الأمر بالمعروف وإقامته، والنهي عن المنكر وإزالته.
أرى بأن هناك خلالا عند الكثير من المسلمين -أصحاب العواطف الصادقة والجياشة- في فهم هذه الوظيفة الشريفة، فقد انحصر تعريف "المنكر" عند الكثير من المهتمين بالشأن الإسلامي بأنواع محدودة من المنكورات مثل:
.
- المنكرات العبادية والعقائدية والتي تتعلق بمظاهر البدع التي تدخل سائر العبادات، والأخرى التي طرأت على عقيدة الأمة.
- المنكرات الأخلاقية كالشهادة الزور والخيانة والكذب..
- المنكرات السلوكية كالمعاكسات والتبرج والاختلاط المذموم .. إلخ
ولكن غاب عن أذهان الكثير أن هناك منكرات لا تقل خطورة، وربما تكون أخطر من ذلك كله، و تأثيرها أعظم وأشمل، وهي:المنكرات السياسية .

إن المنكرات السياسية ذات تأثير عميق في واقع الحياة، و لها تأثير مباشر في ظهور وتنامي بقية أنواع المنكرات.. العبادية و الأخلاقية و السلوكية.. ، فإذا انغمست السلطة في المنكر السياسي؛ فإن الواقع سيكون أرضا خصبة لنمو بقية أنواع المنكرات، بل ربما تكون هي الراعي الرسمي لها !!

كلنا يعرف ما حصل في مسألة خلق القرآن، وكيف اقتنعت السلطة السياسية بهذه البدعة العقدية، فكانت هي المروّج لها، وكانت الفتنة عامة لجميع المسلمين وعلى رأسهم العلماء، وهذا يدلنا على البدعة أو المنكر متى ما ارتبط بالسلطان، وكان هو الراعي له، فإن البلاء يتضاعف والفتنة تعم، ويعم شرها وضررها.

إن المنكرات السياسية – و للأسف – كثيرة في عالمنا العربي و الإسلامي، ولا يتم التصدي لها من زاوية أنها منكر يتعارض مع قواعد وأصول السياسة الشرعية في الإسلام.
أن أبرز هذه المنكرات السياسية غياب رابطة الوحدة بين المسلمين، و تمزقهم إلى دويلات طوائف و فتات تأكله الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق !

و من تلك المنكرات احتكار السلطة، و حصرها في فئة محددة لا يشاركها أحد، و إنما هي التي تختار من يشاركها عبر إلقاء شيئ من فتاتها الذي لا يسمن و لا يغني من جوع، و هذا يقع تحت مسمى استبداد الحكم و مصادرة حق أصيل من حقوق الإنسان والأمة، وهو حق اختيار الحاكم و تداول السلطة، وهو حقٌ مكفولٌ شرعا وعقلا.

ومن المنكرات السياسية السكوت عن الظلم، والهيبة من الصدع بالحق ومواجهة الظالمين، تحت شتى الذرائع التي لا تعجز كثير من العقول الإسلامية عن إيجادها بمهارة فائقة، تبرر السكوت والخضوع والخنوع، الذي يدخل في نهاية الأمر في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم، فقد تُوَدِّع منهم » رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد
.
من المنكرات السياسة إنتهاك القانون داخل الدولة، بصورة تقضي على تكافؤ الفرص، و تُسلب فيها الحقوق، ويُقدم من لا يستحق التقديم، ويُؤخر من لا يستحق التأخير، فيُعبث بالنظام، ووتُنتهك الحقوق، فتنتشر المحسوبيات، وتكون قوة المتنفذين فوق قوة القانون، يقول أبو بكر الصديق في بيانه الرئاسي الذي ألقاه بعد توليه الخلافة {القوي فيكم ضعيف عندي، حتى آخذ الحق منه، الضعيف فيكم قويٌ عندي، حتى آخذ الحق له}

و من المنكرات السياسية العظيمة أن لا يكون للدولة سلطة وسيادة حقيقية على أراضيها، بحيث تنتهك تلك السيادة من قِبل الأجنبي، في ظل انبطاح كامل، وسكوت قاتل من قبل السلطة لمثل هذا التدخل السافر وصمت مطبق من قبل القوى الشعبية الحية، و مع كل ذلك يفتخرون بدولة القانون والسيادة .

علم ودستور ومجلس أمةٍ *** كل عن المعنى الصحيح مُحرَّف
أسمـاء ليس لـنا سـوى ألفاظها *** أمـا مـعانيها فليست تُعْرَف
.
إنها التبعية الذليلة للكافر المتسلط، فهو الذي يقرر شأن بلاد المسلمين، وهو الذي يرسم مسارها، ويحدد خطواتها.. يأمر فيطاع، وينهى فيُنتهى لنهيه، فلا يكون للدولة الإسلامية من أمرها شيء سوى الحكم المتسلط على رعاياها.
.
إن من الواجب على العلماء والدعاة أن يبصّروا الأمة بمجموعها -حكاما ومحكومين- بحقيقة المنكرات السياسية التي أفسدت دين الأمة ودنياها، حتى أصبح حالها يصدق عليه قول الشاعر:
.
ويُقضى الأمر حين تغيب تيْمٌ *** ولا يُستأمرون وهم شهودُ
.
ووصلت إلى مرحلة الغثاء بأن صارت عالة على غيرها، فيصدق عليها قول الشاعر:
.
إني لأفتح عيني حين أفتحها *** على كثير ولكن لا أرى أحدا
.
إن من الواجب مخاطبة الحكام بهذه المنكرات، ونهيهم عنها، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتٌّامُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهُنَّ عَنِ المُنْكَرِ وَلَتٌّاخُذُنَّ عَلى أَيْدِي المُسِيءِ، وَلَتٌّاطُرَنَّهُ عَلى الحَقِّ أَطْرَاً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ الله بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلى بَعْضٍ، وَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ} رواه أحمد والترمذي، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
.
كما أن من الواجب خطاب الأمة بهذه الانحرافات والمنكرات والمحدثات، حتى لا يُظن بأنها شرعية، وحتى لا يُفسر سكوت العلماء عنها بالرضى والقبول، وحتى تقوم الأمة بواجبها في مناصحة المخطئ، وتقويم المعوج {من رأى فيّ اعوجاجا فليقومني} ، {فإن أسأت فقوّموني}.
.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز أهل الطاعة والرضوان، ويذل فيه أهل الفساد والخذلان.. ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن حقيقة المنكر ..
والحمد لله على كل حال .
.
.
كلمة سريعة

إن السلطة السياسية لن يزعجها كثيرا أن يحارب المصلحون المنكرات الأخلاقية و العبادية والعقائدية والسلوكية، بل ربما تشاركة في التصدي لها ، لكنها تتخذ موقفا مغايرا عندما يتعلق الأمر بالمنكرات السياسية !!

هناك 4 تعليقات:

  1. بارك الله فيك.. نتمنى تكتب موضوع حول بناء الشخص لنفسه بمنهجيات معينة لا يستطيع أي إنسان أن يستغني عنها، مثلا كتب في مجالات معينة..؟ خصوصا أننا نعيش في دولة تفتقر لمثل المناهج القوية أو جو يساعد على الإطلاع..
    شكرا

    ردحذف
  2. انا داش دعوم بسأل سؤال يا الزميل

    انت مو مدونتك بو سند؟؟؟

    ردحذف
  3. أستاذ علي
    أتمنى أن تنشر على المعاني الجميلة في إحدى الصحف اليومية لتعم الفائدة
    سلمت لدينك وأهلك ووطنك ولإخوانك الذي أتمنى أن تعدني منهم

    ردحذف
  4. السلام عليكم اخي العزيز دكتور علي انا اكتب اطروحة دكتوراه في المخالفات الشرعية في العمل السياسي حبذا لو تنفعني بهذا الموضوع اكن لك من الشاكرين ولمعروفك من الذاكرين . أخوك رياض الدليمي

    ردحذف