الثلاثاء، 21 يوليو 2009

الدين المائع








يزخر تراثنا الإسلامي بالعديد من المدارس الفقهية المعتبرة، والتي أثرت الجانب التشريعي في حضارتنا، و تمتاز تلك المدارس الفقهية بتنوع الاجتهادات داخل المدرسة الواحدة، ففي المذهب الحنفي نجد أن أقوال أبي حنيفة تختلف عن أقوال صاحبيه ، وفي الذهب المالكي نرى تنوع الاجتهادات بين الإمام مالك و ابن القاسم وأشهب وسحنون ، وفي المذهب الشافعي قد تختلف الأقوال بين الرملي والنووي ، وفي المذهب الحنبلي قد يُنقل عن الإمام أحمد سبعة أقوال في المسألة الواحدة .



كل ذلك يُعد تنوعا يُثري الجانب الفقهي ويجعل ساحة الفقه رحبة فسيحة مستوعبة لمختلف جوانب الحياة .


فكلهم من رسول الله ملتمسٌ *** غرفا من البحر أو رشفا من الديَمِ



وعلى مر العصور الإسلامية الزاهرة لم يضق العلماء ذرعا بمثل هذا التنوع بل كانوا يعدّونه عنوان الرحمة لهذه الأمة، فعندما جاء رجل إلى الإمام أحمد يعرض عليه كتابا ألفه وجمع فيه اختلافات العلماء و سماه ( كتاب الاختلاف )، اعترض الإمام أحمد على عنوان الكتاب وقال له : بل سمّه ( كاتب السعة ) ، ففي اختلاف العلماء توسيع على المسلمين ، لأنهم لو اتفقوا على رأي واحد في جميع المسائل لأوقعوا الأمة في حرج ، والله سبحانه يقول {وما جعل عليكم في الدين من حرج} .



على قدر هذا التنوع والتشعب في الآراء لم نسمع عن تبادل الاتهامات بين العلماء بأن بعضهم يسعى إلى تمييع الدين وتفريغه من محتواه ، بل كانوا يتعاملون مع تلك الاختلافات تعاملا راقيا ، فللمصيب أجران ، وللمخطئ أجر .



أما اليوم وفي ظل فشو الجهل وتراجع الأمة في شتى مجالات الحياة، نشأت ناشئة من هذه الأمة ترى بأن هذه الخلافات تُزري ولا تثري ، فضاقت صدروهم بتنوع الآراء، وخلطوا بين الاختلاف وبين التفرق، وأرادوا أن يحملوا الأمة كلها على رأي واحد في مدرسة واحدة، لذلك سعوا إلى اختزال الدين في نموذجٍ قالبيّ واحد ، وحملوا جميع الأمة على هذا النموذج الاختزالي الذي ضمّنوه مجموع من اختياراتهم الفقهية التي رأوها راجحة، ومن ثم فعلى جميع الأمة أن تقولب نفسها في هذا النموذج الاختزالي الذي اختاروه، وكل من يحاول أن يستعصي أمام هذا القالب فإن تهمته الجاهزة هي : محاولة تمييع الدين !!



إن الذين يحاولون أن يخرجوا على هذه النماذج الاختزالية إنما يفعلون ذلك انطلاقا من رؤى شرعية واجتهادات فقهية مغايرة، ولكن أصحاب تلك النماذج الأحادية يعتبرون أي خروج على قالبهم إنما هو اتباع للهوى، وسعي لتفريغ الدين من محتواه وتمييعه، وما دروا أنهم بمثل هذا الاختزال إنما (يجمّدون ) الدين ، فهم يقابلون الفهم المائع للدين – حسب ما يتهمون مخالفيهم – بفهم جامد له .. وكلا طرفي الأمور ذميمُ.



إن الحكم على المخالف بأنه ممن (يميّع ) الدين هو حكم غير منضبط الوصف، ولا ينبغي أن يصدر ممن لديه علم بمناهج العلماء ومذاهبهم، بل هو من الأحكام التي يسهل على كل طرف أن يستعمله ضد الطرف الآخر عندما يعجز عن مناقشة الأدلة.



والذي يظهر أن مثل هذا الحكم لا يأتي إلا عندما تضيق السبل على صاحب النظر الأحادي فيعجز عن تفنيد الحجج فلا يملك في جعبته حينئذ إلا ذلك الحكم ( الجاهز المعلّب ) ليقول : إنك ممن يميّّع الدين !

هناك 6 تعليقات:

  1. كلامك صحيح جدا

    أعتقد أن حالنا مزري منذ تم تجميد الدين ..

    باب الاجتهاد مغلق ، وإن لم يكن مغلق فهو محتكر ..

    إن تجرأنا أن ننتقد أي ممارسة باسم الدين

    أو نتبنى قناعة خاصة ، شككوا في ديننا !!

    يعني جمود وإرهاب فكري in one package

    :-)

    ردحذف
  2. كثيرا ما أناقش في هذه الفكرة , وأتعب جداً من المتعصبين لرأي واحد ولا يسمعون رأيي .

    حيث أردد دائماً بأن الدين سعة , والاختلاف رحمة , ومادام الاختلاف لا يمس ركن من الأركان الخمسة أو الكبائر فلا بأس فيه

    وأحياناً أتهم بأنني أجعل من نفسي مفتياً وأفصّل الدين على مزاجي : ) ويقولون لي أحياناً بأن د. طارق السويدان خرب مخي : ) بالرغم من براءته في هذه المسألة

    ردحذف
  3. الإتهام هو أسهل الطرق للهروب من النقاش وانت لاتمتلك اي حجة.

    الإختلاف رحمة لكن من يعي ذلك في وقتنا إلا من رحم الله؟!.

    ردحذف
  4. مغاتير

    ليس من حق أحد أن يغلق بابا فتحه النبي صلى الله عليه وسلم.
    وعوى (إغلاق باب الاجتهاد) تحمل في طياتها بذور بطلانها، وذلك لانها دعوى تقع في إطار الاجتهاد، فالقائلون بها مجتهدون ، لأنها فكرة جديد لم تكن موجودة في عهد النبي والصحابةالأئمة، فهم اجتهدوا في غلق باب الاجتهاد

    وشكرا على تعليقك

    ------------------------------------
    إيلاف
    أعانك الله

    يجب أن نضع في حسباننا أن التراكم الثقافي الهائل منذ عصور التراجع مازال يلقي بثقله على العقلية الإسلامية، فالتحدي الحقيقي في إزلة ذلك التراكم، وفي ذلك صعوبة على كثير من الناس.

    لذلك فمواجهة الآخرين بما اعتادوا عليه من أفكار مترسخة أمر يحتاج إلى موازنة تجمع بين طرح ما نعتقد من أفكار ورؤى، وبين عدم خسارة الآخرين.

    ولك خالص الشكر على تعليقك القيم


    ------------------------------------------

    صقر قريش

    نعم اتهام الآخرين دليل على إفلاس زخزاء

    شكرا لمرورك

    ردحذف
  5. فكرة الموضوع ومحتواه رائعين وكنت أتمنى أن يكون الموضوع على اطلاقه دون تخصيص بفئه أو أن نذكر كلا الفئتين فبين أظهرنا جامدين فعلاً كما أن بين أظهرنا مميعين فعلاً ... ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي ... والعبرة بالدليل ورحم الله الشيخ ابن عثيمين عندما قال : " من خالفني في بالدليل فقد وافقني "

    شكرا على هذا الموضوع المميز

    ردحذف
  6. وشكرا لك يامحمد على تعليقك وملاحظاتك

    جزيت خيرا

    ردحذف