الثلاثاء، 28 أبريل 2015

تدمير البيئة السياسي



يبدو لي أن هناك تدابير مُمنهجة لتدمير الحياة السياسية في الكويت، فبعد أن تَخلّت السلطة عن أسلوبها القديم في تعطيل العمل بالدستور، وتعليق الحياة البرلمانية بشكل مباشر وصارخ، أصبحت تلجأ إلى إفراغ الحياة السياسية من مضامينها الرئيسية، والمتمثلة في القيم الديمقراطية التي يقوم عليها الحكم الرشيد، من سيادة للقانون، وتحقيق مبدأ المواطنة، وتنظيم العمل السياسي بما يضمن تشكيل كُتل نيابية كبيرة تحقق أغلبية برلمانية، تتيح لها تشكيل حكومة تُمنح الثقة بناء على برنامج عمل تم طرحه في الانتخابات.


 تَمثل الأسلوب الجديد للسلطة في تفكيك الحياة السياسية من الداخل، وإفراغها من محتواها، فيزالممارسات الحكومية المختلفة، عبر الهروب من استحقاقات الرقابة الشعبية في الاستجوابات، فتارة تحيله للمحكمة الدستورية، وأخرى للجنة التشريعية، وثالثة برفع كتاب عدم تعاون، وغيرها من الحيل السياسية تحت ذرائع دستورية، تُمثل التفافا على مواد الدستور، بما يناقض مقاصده الرئيسية وتوجهاته العامة.


 وقد بلغ تدمير البيئة السياسية ذروته في مرسوم الصوت الواحد، حيث عزز كل الأمراض الإجتماعية التي يعاني منها الوطن، وأخرجها على السطح، فقد رسخ الفردية في التمثيل السياسي، وخفّض عدد الأصوات المطلوبة للنجاح، فصار المرشح بحاجة إلى أصوات أقل، يستطيع أن يحصل عليها من "فخذ القبيلة" والعائلة، وجزء من الطائفة، والمنطقة السكنية، لتخرج لنا كائنات انتخابية يُطلق عليها فيما بعد "ممثلوا الأمة"!

 المصيبة أنه بعد أن شهدنا الكوارث التي حلّت بالبلد من وراء الصوت الواحد، الذي قسّم المقسّم، وجزّأ المجزأ، وفتَّتَ المجتمع ودمّر الحياة السياسية، نشهد توجها نحو تعميم هذا النموذج السيء على بقية المؤسسات القائمة على الانتخاب، ليصبح -بكل ما يحمله من عيوب- فلسفة عامة في مؤسسات الدولة، فبعد أن صار الصوت الواحد واقعا مرا في النظام البرلماني، تم استنساخه للجمعيات التعاونية، ويجري الآن التحضير لاستنساخه في الأندية الرياضية والاتحادات الطلابية، ليتم القضاء على ما تبقى من أمل في استعادة الحياة السياسية لعافيتها، وتدمير آخر معاقل الأمل التي تمثل الشباب، والتي يفترض أن تخرّج للمجتمع العناصر الحية التي تتقدم به إلى الأمام..

 عندما تقوم السلطة بفرض هذا النموذج في مختلف مؤسسات الدولة فإن هذا مؤشر على شعورها بحالة من الضعف، على عكس ما يتوهمه البعض، فلأن السلطة تدرك بأنها ضعيفة؛ فهي تقوم بإضعاف الشعب عبر تفتيت مكوناته لتدمير حياته السياسية، حتى لا يُعطى الفرصة لفرض إرادته، وتحقيق سيادته.


 المؤسف في الأمر أنه كان من المفترض بعد خمسين عاما من الحياة الدستورية أن نتحدث عن تطوير لهذه التجربة، أو على الأقل الحفاظ عليها، لكن الحاصل أننا أصبحنا نتحدث عن كيفية إيقاف التدهور والتردي الذي أصبحت تعانيه، ولا ندري في أي قاع سيقف بنا!

الأحد، 19 أبريل 2015

الظهر الخليجي المكشوف.. إلى متى؟

ملاحظة: هذا المقال تم نشره في جريدة القبس الكويتية هنا

قيل في المثل: قبل صعود السلم، تأكد من الجدار الذي يستند عليه.

 تلك خلاصة الدرس الذي يجب على دول الخليج الاستفادة منه بعد عقود طويلة من تجاربها في بناء تحالفات مع أنظمة سياسة عربية، راهنت عليها لكنها خسرت الرهان، فانقلبت تلك الأنظمة عليها، وعضت الأيدي التي احتضنتها، ولم يعد في وسع دول الخليج إإلا أن تقول:

وكم علمتُهُ نَظْمَ القوافي *** فلما قال قافيةََ هجاني

 هذا ما حصل لنا مع نظام صدام حسين، وتكرر ذات الأمر مع المخلوع علي عبدالله صالح، الذي تخوض دول الخليج حاليا حربا عليه بعد أن ضمنت له خروجا آمنا من موجة الثورة اليمنية التي كادت أن تقضي عليه، وقد وفّرت له المملكة العربية السعودية العلاج اللازم بعد إصابته في محاولة الاغتيال الذي تعرض لها، إلى أن عاد إلى اليمن ليتحالف مع الحوثيين، المدعومين من الخصم التقليدي لدول الخليج، وهناك تجارب أخرى مرشحة للتكرار إذا استمر هذا النوع من الدعم لأنظمة مشابهة، فمتى ستتخلى دول الخليج عن هذه السياسة الخارجية في بناء تحالفات مع أنظمة لا تمتلك عوامل البقاء، ليبقى ظهر الخليج مكشوفا!

 تعددت مبررات الدول الخليجية في دعم هذه الأنظمة، لكن هذه مبررات ما كانت لتوجد لولا بعض نقاط الضعف التي تعاني منها الدول الخليجية، ولعل أبرز تلك النقاط طبيعة أنظمتها السياسية التي تفتقر للمشاركة الشعبية الحقيقية، بالإضافة إلى الملاحظات السلبية التي تبديها منظمات حقوق الإنسان العالمية بين الفينة والأخرى، وكانت هذه القضايا تمثل مصدر ازعاج لها، ومدخلا لابتزازها، كما حصل مؤخرا عندما اعتبر الرئيس الأميركي أوباما أن "الخطر الذي يتهدد الخليج مصدره سخط الشباب داخل بلادهم"، وبالمثل تقوم إيران باللعب على وتر الأقليات الطائفية في المنطقة، رافعة شعار حماية حقوق تلك الأقليات كما تدعي، ومن المتوقع أن نشهد المزيد من تلك المزايدات من الطرفين، وخصوصا بعد الاتفاق الإيراني الأميركي حول البرنامج النووي ورفع العقوبات الاقتصادية.


 لكي تغلق دول الخليج الباب نهائيا في وجه تلك المزايدات الخارجية، ولكي لاتضطر لبناء تحالفات مع أطراف تقلب ظهر الـمِجَن عند أقرب فرصة، فإنها مطالَبة بالقيام بخطوات تاريخية نحو إعادة ترسيم سياساتها الداخلية، باتجاه منح شعوبها مساحات واسعة من الحريات السياسية، ومعالجة ملفات حقوق الإنسان المتخمة، والأجواء حاليا مناسبة، وخصوصا أن عاصفة الحزم قد رسمت صورة جديدة لدول الخليج، توحي بأنها قادرة على قيادة سياستها الخارجية باستقلالية وحزم، فمن المناسب أن تكتمل هذه الصورة برسم سياسات داخلية تتناسب مع تلك الصورة الخارجية، وتعززها وتمنحها قدرا من الاستقلالية، ولا تجعلها مادة للتوافقات الإقليمية والدولية.

هشاشة أوضاعنا الداخلية


ملاحظة: هذا المقال تم نشره بجريدة القبس الكويتية
http://www.alqabas.com.kw/Articles.aspx?ArticleID=1039856&isauthor=1

"إن المصائب يَجْمعنَ المصابينا" شطر بيت لأحمد شوقي يعبر عما هو ثابت ومستقر بين الناس، فمن المعروف أنه  في ظل المصائب والظروف الاستثنائية تتوحد الجبهة الداخلية، ويتناسى الناس خلافاتهم، أو يؤجلونها بعض الوقت، إلى أن تستقر الأمور، لكن الأحداث الأخيرة التي عصفت بعالمنا  منذ بداية الربيع العربي وإلى يومنا هذا، والتي ألقت بظلالها علينا في الكويت من خلال محطتها الأخيرة في الحرب على الحوثيين، كشفت عن حالة من الهشاشة المجتمعية، والقابلية المفرطة للانقسام الحاد عند أي أزمة، فما أن يستجد أمر حتى ينقسم الناس إلى "فسطاطين" ويأخذ كل طرف موقعه، ويرسل كل فسطاط إلى الآخر رسائل الإقصاء والتخوين والتهم المعلبة وتسجيل النقاط على الخصوم، ويتم ذلك بشكل آلي دون حاجة إلى التفكير بمجريات الأحداث، أومحتوى الخطاب، وعواقبه على البلاد والعباد!

من خلال تسجيل هذه الملاحظة فإنني لا أنشد المثالية، ولا أفترض أن يكون الناس على رأي واحد، فهذا لن يحصل -ويجب أن لا يحصل- لكن الذي يستحق الملاحظة والتنبيه هو حجم الاحتقان المجتمعي الذي يصاحب عملية الاختلاف، والذي يؤدي إلى ما يشبه "الانشطار الطولي" للمجتمع، يقوم من خلاله كل طرف باستدعاء كل ما في جعبته من مفردات الإقصاء، والذي ينتهي غالبا بتحريض السلطات على الطرف الآخر، والتصفيق لها عند اتخاذ إجراءات ضده.

هذه الهشاشة في البنية الداخلية لم تصنعها الأحداث بقدر ما كشفتها ورفعت الغطاء الساتر عن وجهها الذي ظل كل طرف يُجمّله بمساحيق المجاملات الباردة، ويدّعي المثالية في نظرته للآخر، ولكن إن كان شطر بيت شوقي "إن المصائب يجمعنا المصابينا" لم يعد يصدق علينا، فإن "الشدائد تُظهر معادن الرجال" هو المثل الأصدق على مجتمعنا في هذه الحالة، فالشدائد التي مرت بالمنطقة، والتي كان لنا نصيب منها أظهرت أمراض المجتمع، ونقلتها من القاع لتجعلها في الواجهة، وطافية على السطح.

  وإذا كانت "المنح تأتي على ظهر المحن" فإن انكشاف هشاشة الوضع الداخلي هو المنحة التي ساقتها لنا الأحداث العاصفة بالمنطقة، فمهما كانت الأمراض مستوطنة في جسد المجتمع فلابد أن تظهر بشكل جليّ حتى يمكن علاجها، ولذلك من الواجب استثمار هذه الأحداث التي كشفتنا من أجل ترميم أوضاعنا الداخلية بصورة سليمة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن تشتد العواصف أكثر في المنطقة، والتي بلا شك ستنعكس على البلد - إن لم يكن جزءا منها- فإن جاءتنا ونحن على هذا الحال "الانشطاري" فستخطَفُنا الطير.. أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق.. لا قدر الله!